الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، النَّبيِّ الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
يقول الله تعالى في مُحْكَمِ تنزيله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70)﴾ (الإسراء).. ولكنَّنا إذ نتدبَّر في حال دنيا القرن الحادي والعشرين، واستجابةً لما أمرنا به اللهُ تعالى؛ من أنْ نمشي في الأرض، وأنْ نرى آياته في الآفاق، آخذين منها العظة والعبرة، استعدادًا ليوم البعث الذي لا ريب فيه؛ فسيجد المُطَّلع منَّا على حال الإنسانيَّة في الوقت الرَّاهن أمامه صورةً بائسةً؛ حيث ظهر الفساد في البرِّ والبحر بما كَسَبَتْ أيدي النَّاس.
وبات إقصاء الآخر بل وقتله؛ هو عنوان الخلاف، والسِّلاح هو لغة الحوار بين البشر، بدلاً من قِيَمِ التَّعارف والتَّعاون والتَّعايُش التي دعا الله تعالى إلى أنْ تكون هي أساس العلاقات بين البشر.. قال تعالى: ﴿يَا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اَللهِ أَتْقَاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
وبَعُدَتْ الإنسانيَّة عن فطرتها السَّليمة التي فطر الله عزَّ وجل النَّاس عليها، وباتت قِيَمُ الإنسانيَّة وأُخوَّة البشر في الأصل والمنبت الواحد، معانيَ مهجورةً، وقيمًا ضائعةً؛ حيث لا يقيم الإنسان وزنًا لكرامة- أو حتى لحياة- أخيه الإنسان.
والمقصد من "الإنسانيَّة" هنا أنْ تكون قواعد التَّعامُل بين بني آدم هي القواعد التي حدَّدها الله تعالى لإنفاذ رسالته من خلق الإنسان، وهي خلافة الله عزَّ وجلَّ في الأرض، وإقامة شريعته فيها، وإعمارها بالشَّكل الذي يُحقِّق هذه الغايات الإلهيَّة العظيمة.. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: من الآية 30).
ولذلك فإنَّ "الإنسان" له مكانةٌ ساميةٌ في الدِّين الإسلاميِّ الحنيف؛ حيث جاءت الشَّريعة وأحكامُها لرعايته، وضمان حقوقِه، وتحسين أحواله وتسيير أموره في الحياة الدُّنيا؛ ولذلك فقد سخَّر الله تعالى للإنسان كل شيء.. قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (12)﴾ (النَّحل)، وقال أيضًا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65)﴾ (الحج).
كما جعل مقاصد الشَّريعة الخمسة حفظَ الإنسانِ دينَه ونفسَه وعقلَه ونسلَه ومالَه؛ ليحفظ له حياته وكرامته.
ومن مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أنْ خلقه في أحسن تقويم.. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4)﴾ (التِّين)، كما أنَّ الله عزَّ وجلَّ شرَّف الإنسان بأنْ ربطه بالذَّات العليَّه، عندما سوَّاه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجعل الكُفْرَ بالله تعالى صِنوًا لعدم احترام وتبجيل الإنسان.. ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)﴾ (ص).
ومن أندى ثمرات هذه القِيَم والمبادئ السَّامية مبدأ الإخاء الإنسانيِّ، فالنَّاس سواسيةٌ في شريعة الإسلام، باعتبار واحديَّة الأصل والنَّسب؛ آدم وحواء.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾ (النِّساء).
والقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشريفة مليئةٌ بالنُّصوص التي تحتوي على خطاب يبدأ بعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، والرَّسول الكريم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ للنَّاس كافَّة، ورحمةً للعالمين.. قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما بُعِثْتُ للنَّاس كافَّة".. وقال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).
ولم نُؤْمَر في الإسلام بالدَّعوة إلى الله وشريعته بالعُنف والقوَّة والتَّرهيب؛ ليس لأنَّنا أُمرنا بالدَّعوة إلى سبيل ربِّنا بالحكمة والموعظة الحسنة فحسب، وليس لأنَّ الإسلام دينٌ سمحٌ فقط، ولكن أيضًا احترامًا لقَدْرِ الإنسان وعقله، وهذا الاحترام وهذه المساواة بين البشر جميعًا؛ هي التي جعلت من ربِّ العزَّةِ سبحانه يُؤكِّد مُباشرةً العلاقة ما بينه وبين عبده، فلا وساطات ولا حواجزَ بين الله والإنسان.
إلى أيِّ قِيَم يدعون؟!
هذه هي قِيَمُ الإسلام، والتي حكمت العالم لأكثرِ من ألف سنة، كانت فيها دولة الخلافة الإسلاميَّة هي المنارة الوحيدة في العالم، للعلم والأخلاق والتَّشريع وإعمال العقل، في المُقابِل، وعندما كان ابن رشد يناطح الشَّافعي، وابن الهيثم يرسم مخطوطات سدِّ أسوان، وهارون الرَّشيد يتتبَّع السُّحُبَ في السَّماء لكي يأتي بخراجها الذي أمر الله به، كان الغرب يعيش حياة الكهوف والبدائيَّة وشريعة الغاب.
وعندما ظَهَرَ ما يُعْرَفُ بعصر النَّهضة والتَّنوير في العصور الوسطى في أوروبا، وبدأ الغرب في الأخذ من الحضارة الإسلاميَّة، علمًا وفكرًا، وظنَّ النَّاسُ أنَّ العالم في سبيله إلى السَّلام والتَّعاوُن، وأنَّه سوف تسوده قيم العقل والرُّوح معًا، ما كان من "الحضارة" الغربيَّة إلا أن استنَّت العديد من القوانين والسُّنَنِ التي تتنافى مع الفطرة الإنسانيَّة السَّليمة، ومع القيم التي وضعها الله تعالى لتسيير شئون عباده في الأرض.
ومن بين هذه القيم أنْ صارت المنفعة المادِّيَّة هي الأساس، وهي معيار الحكم الوحيد على الأشياء، ومن ثمَّ عمَّت الرَّذيلة والانحلال، وباتَتْ كل الوسائل متاحة أمام البشر ما دام في استخدامها تحقيقٌ لمنفعتهم.
وهو ما كان المنطق الأساسي الذي استند إليه الأوروبيُّون والأمريكيُّون في حملاتهم الاستعماريَّة في القرون السِّتَّة الأخيرة من تاريخ الإنسانيَّة؛ حيث استحلُّوا ثروات "الشُّعوب المُتخلِّفة"، بل إنهم باعوا هذه الشُّعوب نفسها في سوق النِّخاسة.. مئات الملايين من الأنفس التي كرَّمها الله تعالى خدَمَتْ في مزارع ومصانع "الحضارة الغربيَّة"، وماتوا ولم يسمع بهم أحدٌ.
وازدادت الحروب، وازداد تخلُّف العالم غير الغربيِّ بعد قرون من الهيمنة الاستعماريَّة، ونشأت شعوبٌ ودولٌ كاملةٌ لا تعرف للاستقرار معنى، ولا للحضارة وسيلةً، بعد أنْ فُرِضَتْ عليها التَّبعيَّة فرضًا، لكي تكون سوقًا لتصريف مُنتجات مصانع ومزارع الغرب، وحركة أموال مصارفه العملاقة التي أنشأها اليهود في الأساس في القرن السَّابع عشر الميلادي في أمريكا؛ لحفظ أموال قراصنة البحار الأوائل، وضمانة أنْ تستمر هذه الشُّعوب والبلدان في تموين مصانع ومزارع "الحضارة" الغربيَّة بالمواد الخام.
وكان لسَيْطَرة قِيَم الماديَّة والبراجماتيَّة وابتعاد البشر عن دِين الإله الواحد؛ دورٌ كبيرٌ في ترسيخ هذا الوضع الذي أعاد الإنسان إلى عهود شريعة الغاب والاستعباد التي كافح طويلاً لكي يتخلَّص منها، وباتت مُصطلحاتٌ مثل الأُخوَّة الإنسانيَّة والتَّعاون بعيدةً عن قاموس مفردات العلاقات بين المُجتمعات البشريَّة.
وزاد الطِّينُ سوادًا والحرائق اشتعالاً عندما التقت أهداف ومصالح الغرب برأسماليَّته المُتوحِّشة، وعلى رأسه الولايات المتحدة، مع أهداف ومطامع المشروع الصُّهيونيِّ في العالم العربيِّ والإسلاميِّ؛ حيث عمَّت الدِّماء الأرض، وباتت صور اللاجئين والمُشرَّدين هي الغالبة على أخبار أُمَّتنا المغلوبة على أمرها بفعل قوى الاستكبار العالميِّ، وبفعل قوى الاستبداد والفساد الدَّاخليّ
منقققققول
ا محمد عاكف