الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛
ونحن نتنسم عبير الهجرة النبوية المباركة ونعيش في رحابها كل عام؛ يتبين لنا أنها معين لا ينضب، وزاد لا ينفد للعبر والدروس التي يتعين علينا أن نتلمسها ونحن نحيا في هذا الواقع البئيس الذي تمر به الأمة من ضعف.
فكما كانت الهجرة المباركة نقطة تحول كبيرة في نشأة الدولة الإسلامية ونهضتها؛ فيمكننا ونحن نعيش في ذكراها أن نجعل من الأسس والمرتكزات التي اتبعها المصطفى صلى الله عليه وسلم نبراسًا لنا، ونقطة تحول كبيرة للأمة على طريق نهضتها ورقيها ونهوضها من كبوتها التي هي فيها الآن، تلك المرتكزات والمقومات هي التي تربَّى عليها جيل الصحابة من قبل، وقامت على أساسها الدولة الإسلامية الأولى، وكان لها أثرها في بناء الحضارة الإسلامية على مر العصور.
وإذا كنا نريد نهضةً حقيقيةً لأمتنا الإسلامية، وإعادةً لمجدها ومكانتها الرائدة بين الأمم؛ فعلينا أن نتلمَّس دروس الهجرة وما فيها من معالم وخطوات، وأن نسعى جاهدين لتحقيق تلك المقومات في ذواتنا وواقع حياتنا، ومن أهم هذه المقومات: الإخلاص التام لله، والتجرد الكامل لوجهه الكريم، واستشعار معية الله وحسن الصلة به، والثقة واليقين في نصره لجنده، وقوة الإرادة وعلو الهمة، والجهاد والتضحية والبذل والصبر والثبات، وحسن الإعداد والتخطيط، والتوظيف الأمثل، ويغلف كل ما سبق حبٌ كبيرٌ وأخوَّةٌ صادقةٌ وأمانةٌ ووفاءٌ وسموٌ في العلاقة بين كل أفراد الصف على كافة المستويات.
أعظم جيل
لقد امتُحن الذين سبقوا من المهاجرين فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وامتُحن الأنصار بالوفاء والنصرة لهؤلاء؛ فنجحوا نجاحًا سجَّله الله عز وجل في كتابه: ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 157)، فلقد هانت عليهم الحياة حين عزَّت عليهم عقيدتهم، وصغُرت الدنيا حين سمت غايتهم.
هذه صورةٌ صادقةٌ تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين.. أُخرِجوا إخراجًا من ديارهم وأموالهم، أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة، لا لذنبٍ إلا أن يقولوا ربنا الله.. وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم ابتغاء فضل الله، لا ملجأَ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حِماه.. وهم مع أنهم مُطَارَدُون قليلون فإنهم يحرصون على نصرة الله ورسوله.. ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال:26)، فأولئك الذين قالوا كلمةَ الإيمان بألسنتهم، وصدَّقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورةً منه تدب على الأرض ويراها الناس ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر : .
كما كان الأنصار يقاسمون المهاجرين أموالَهم وإن كانت جهد المقلّ، ولكنَّ قلوبَهم وسِعَت كلَّ من وفد عليها، وهكذا تحقق معنى الوحدة الحقيقية، من معرفةٍ إلى صداقةٍ، ومن صداقةٍ إلى حبٍّ، ومن حبٍّ إلى إيثارٍ، ولا عجبَ أن سجَّل القرآنُ الكريم هذه المواقفَ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9).
وهذه صورةٌ وضيئةٌ صادقةٌ تبرز أهمَّ الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفرَّدت بصفات، وبلغت إلى آفاق لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس مثُلاً عليا قد صاغها خيال محلق، لقد كان الإيمان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.
هكذا امتُحِن المهاجرون بالإيمان القوي والصبر، وامتُحِن الأنصارُ بالحب الكامل فنجحوا جميعًا، واستقر المجتمع بتلك المبادئ السامية التي علا بها قدرُ الإنسان وشرفت بها قيمة الإنسان.
إن المبادئ التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم قد أُحيطت بقلوب رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فإذا نحن حاولنا أن ننجح كما نجحوا فعلينا أن ننهج نهجهم، ونسلك مسلكهم، فإنهم باعوا أرواحهم لله، وضحَّوا بأنفسهم في سبيل الله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: الآية 111)
بين الماضي والحاضر
تُرى كم خسر عالمنا المعاصر بتخليه عن دروس الهجرة العظيمة التي أرساها لنا رسول الله من غرس أركان الحب وجوانب الإيثار وأعمدة الإخاء بين أفراد المجتمع؟، وكيف أن الدين العظيم لا بد له من أولي عزم وصبر وجلد؟، وكيف أن الدولة الإسلامية التي كانت الهجرة نواتها هي الدولة العظمى بين الأمم وموئل كل البلدان والشعوب في العالم.. ولأدركنا أننا خسرنا كثيرًا بتنكبنا عن منهج الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم وهديه وسيرته العطرة. ماذا حدث للأمة اليوم؟!
* هذا الشأن الفلسطيني وما حدث من عدوان غاشم ومحرقة مروِّعة من الكيان الصهيوني البغيض لأهلنا وإخواننا في غزة، وتخاذل جُل الأنظمة العربية والإسلامية عن نصرتها والذود عنها، ناهيك عن عدم تحركهم تجاه الممارسات الفجة للكيان الغاصب التي تهدد المسجد الأقصى الأسير، متناسين ما في الهجرة من دروس عظيمة في الجهاد والتضحية والتي لو تمثلوها لنالوا الرفعة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، ولكنه "الوهن" الذي أصاب الأمة فنسيت أو تناست تاريخها وسيرة نبيها.
ولقد أثبتت الأحداث مدى حاجة أحبابنا في غزة لأنصار حقيقيين يتقون الله فيهم، وينصرونهم نصرًا حقيقيًّا لا ادعاءً وزيفًا.
* وهذه أفغانستان.. والعراق.. والصومال.. والسودان.. واليمن.. والعديد من الدول الإسلامية؛ إنه الهوان بعينه والاستخذاء المرّ لأعداء الأمة؛ ليظل بأسنا بيننا شديدًا، وما هو إلا استدراج للأمة لتفرغ وسعها وطاقاتها ومقدراتها في الاقتتال الداخلي؛ لتظل الأمة مشغولةً بنفسها ولتسيل دماؤها بأيديها، والعمل وفق رؤى ضيقة وأجندات مشبوهة لا تخدم مصلحة الأمة ومستقبلها.
ولو تمثل أولو الأمر ما في الهجرة من أُخوة ووحدة وترابط وجسارة ورغبة جادة في التحدي، وعملوا وفق هذه المنظومة القيمية الإسلامية الرائعة وأنزلوها منزلتها المستحقة؛ لأمكنهم تجنب الكثير مما حاق بالأمة من أحداث جسام ولأمكنهم التصدي للهجمات المتتالية عليها.
وفي الانتخابات الأمريكية وانتخاب الرئيس أوباما درس بليغ عندما تعلقت آمالهم عليه وحملوا خطابه في جامعة القاهرة أكثر مما يحتمل؛ فقد أُحبطت تلك الآمال بسبب اهتمامه بأمور كثيرة أهمها ضغوط العدو الصهيوني عليه، وفشل العرب والمسلمين في الوحدة والضغط عليه.
لقد شهد العام الماضي ازدياد روح العنصرية الغربية لكل ما هو إسلامي ومحاربتهم للحجاب، والذي وصل ذروته لحد القتل على أساس الدين؛ وهو ما حدث بقتل صيدلانية مصرية لتمسكها بحجابها وتعاليم دينها، وكانت ثالثة الأثافي نتائج الاستفتاء السويسري على حظر بناء المآذن.
وهو ما يؤكد تنامي روح العداء والعنصرية لكل ما هو إسلامي في الغرب، وهو ما يدعونا لمواجهته بالتمسك بالإسلام وتعاليمه والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وضرورة إعطاء الغرب والغربيين الصورة الصحيحة للإسلام بالقدوة الحسنة، والسلوك القويم والممارسات السوية.
كما شهدنا الدور التركي في المنطقة وفعاليته في العديد من القضايا ومنها: فلسطين والعراق وسوريا، فضلاً عن أرمينيا، منتهجًا سياسة عقلانية ومتبنيًا للقضايا والمواقف العربية والإسلامية، والتي ظهرت بجلاء في موقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الملتقى الاقتصادي العالمي بدافوس إثر مشادة كلامية مع رئيس الكيان الصهيوني بسبب الهجوم الصهيوني على غزة.
ومن أهم أحداث العام الماضي، استمرار تداعيات انهيار النظام المالي الربوي، وثبات فشله الذريع وتكبيده للبشرية العديد من الخسائر التي ما زالت تتوالى للآن وثبات فشله؛ بل وتعدى الأمر ذلك لدعوة بعض الكتاب الغربيين لتبني مبادئ الشريعة الإسلامية، ففي مقال (رولاند لاكسين) رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دي فايننيس) في الافتتاحية يوم 25/9/2008م جاء عنوان المقال: "هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت؟"؛ يقول فيه: "إذا كان قادتنا حقًّا يسعون إلى الحد من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية".
فها هم قادة الفكر الغربي ينادون بتطبيق مبادئ الإسلام بعد أن تركناها نحن، وتخاذلنا عن العمل بها ونصرتها، وتناسينا أن من أهم نتائج الهجرة إقامة الدولة الإسلامية، وتقوية أركانها، وبناء الاقتصاد الإسلامي، وبناء السوق الإسلامية التي واجهت السوق اليهودية.
كما استمرت السلطات المصرية- وبكل أسف- في سياسة اعتقال الشرفاء من أبناء الوطن، وتلفيق التهم الباطلة لهم، والزج بهم في السجون دون مراعاة لأبسط حقوقهم الدستورية والقانونية، وضاربةً عرض الحائط بأحكام القضاء واجبة النفاذ؛ مستمرئة حريتهم وأوقاتهم ودماءهم وجهدهم وأموالهم، رافضةً جميع استشكالات الإفراج عنهم.
ووصل الأمر لهدم منشآت قائمة لخدمة الشعب ومن أمواله، غير عابئة بحرمة هذه الأموال، ولا حاجة الشعب لهذه المنشآت الحيوية المتمثلة في مستشفيات ومدارس وخلافه، وغير مراعية لأي شرف للخصومة ولا مغلِّبَة للمصلحة العليا على المصلحة الحزبية الرخيصة.
أيها المسلمون..
إذا أردنا أن نعيد للإسلام مجده ومكانته وسابق عهده فعلينا التحلي بذات المقومات التي انتهجها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، واغتنام العام الهجرى الجديد في مزيد من العمل الجاد والحثيث لنصرة الإسلام على كل المستويات، وزيادة الطاعات والقربات لله سبحانه وتعالى، والمسارعة إلى الله والتحلي بأخلاق الحبيب المصطفى وسلوكياته، وجعلها نبراسا يضيء لنا الطريق، كما علينا هجرة الذنوب والمعاصي والخنوع والظلم والتهاون.
كم نحن في حاجة للمنظومة الأخلاقية الإسلامية التي أرسى قواعدها الإسلام الحنيف، والأحداث التي نحياها تبين مدى احتياج الحضارة الإنسانية لهذه المنظومة؛ لإنقاذها مما ألمَّ بها، ولتقودها نحو طريق النجاة، طريق الله القويم.
أيها المسلمون..
أنتم القلب النابض لهذه الأمة، وأنتم ضميرها الحي، وعلى قدر وعيكم ونهضتكم تنهض الأمة؛ فاستشعروا عِظَم الأمانة وضخامة المسئولية الملقاة على عاتقكم، وكونوا كما يحب ربكم ويرضى، وتمثَّلوا الهجرة وما فيها من عبر وعظات، واجعلوها أمام أعينكم مقتدين بها، عاملين ومطبقين ومنفذين لما انتهجه قدوتنا وزعيمنا صلى الله عليه وسلم.
واعلموا أن من واجباتكم الأساسية: النهوض بالأمة والمساهمة الفعالة في أدائها لدورها الإصلاحي، وتحقيق مقومات هذا الإصلاح وواجباته في أنفسكم قبل دعوة غيركم، وعليكم بالتحلي بروح المبادرة والإقدام في الفكر والعمل، والاعتماد على التخطيط وحسن التوظيف، والتجديد والتطوير في برامجكم ووسائلكم، مغلِّبِين الفعل على القول، غير مستسلمين لما يعترضكم من عقبات وعوائق، ومستفيدين من المقومات السابق ذكرها أنتم قبل غيركم.
فسيروا أيها الإخوان على بركة الله، عاملين على إعلاء كلمة الحق، التي يجب أن تتجه إليها قلوبكم وجوارحكم اتجاهًا قويًّا ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: الآية 139).. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والله أكبر ولله الحمد
منقققققققققققول
مقال للاستاذ محمد عاكف