هل ابنك شخصية اتِّكاليَّة يعتمد على غيره في كل صغيرة وكبيرة, لا يستطيع أن يتخذ خطوة إيجابية في حياته, متردد في كل أموره, فاقد الثقة في نفسه, ولديه دومًا قناعة أنه فاشل, لا يستطيع إنجاز أي عمل وإن كان بسيطًا؟ أم أنه يتمتع بشخصية قيادية ويعتمد على نفسه ولديه القدرة على الاختيار واتخاذ القرار في أمورِه المختلفة؟ إن كان هذا أو ذاك, فإن للآباء دورًا مؤثرًا وحيويًّا في الوصول بأبنائهم إلى كلا الشخصيتين, وقد أشارت الدراساتُ التربويةُ والنفسية إلى أن حوالي 90% من مكونات شخصية الطفل تتشكَّلُ في السنوات السبع الأولى من عمرِهِ, بما فيها من خلق المفهوم الذاتي لديه, والذي فيه التقبل والإدراك والقيم والسمات الرئيسية التى تكوِّن شخصيتَه طيلةَ عمرِه.
وقد أوضحت الدراساتُ أن التدليل المبالَغ فيه للطفل في صغره, وتلبية كل رغباته بلا استثناء, وعدم تكليفه بأي مهام, تفقده صفة الاعتماد على الذات, ويتكل في كل أموره على الأم أو غيرها لتلبية حاجاته.
وكذلك فإن القسوة والعُنف في التعامل مع الطفل تخلق منه إنسانًا منعزلًا انطوائيًّا يتحاشى التعامل مع الناس، بل وحاقدًا عليهم في أحيان كثيرة.
وبين التدليل والشدة يأتي التوازن الذي يجعل من ابنك شخصية سويَّة نفسيًّا واجتماعيًّا.
وحول هذا, قال د.حمدي يس (أستاذ الصحة النفسية وعلم النفس الإكلينيكي بجامعة عين شمس) أن "الأم تستطيع أن تقدِّم لأبنائها أمثلةً سلوكية وتربوية كثيرة, فيها من العطاء والتواصل والأمل ما يحتاجُه الطفلُ في بداية تكوينِه, ومن خلال الدلالات والرموز الثقافية المتنوعة التى تبثُّها فيه, ودورها في فترة الحياة المبكِّرة التي تعمل على تنميط الحياة بشكل إيجابي, مما يسهم في خلق مخططات ذهنية إيجابية لديهم".
ويؤكد أن الطفل لديه سمات فطرية وراثية يُولَد بها, ومهارات مكتسبة من البيئة المحيطة, والتي تعلِّمُه إيَّاها الأم في سنوات عمرِه الأولى, كالحب, والتفاؤل, والإيثار, والعطاء, وحب الخير, فإن نجحت الأم في ذلك فإنها سترسُم الخطط لتربية أبنائها, وتنشط بذلك عقولهم وأرواحهم لتعلمَ كل ما هو جميل في هذه الحياة, ويخطئ الآباء الذين يستخدمون دومًا أسلوب الأمر والنهي بشكلٍ حادّ ومبالَغ فيه مع الأبناء, فالأبناء ليسوا أجهزةً تتلقى الأوامر وتنفذها دون تفكير، وعلى الأم أن تكسبَهم مهارةَ تحمّل المسئولية من خلال المكاشفة والمصارحة, والبُعد عن التدليل أو التخويف, ويجب الحرصُ على عدم التفريق في المعاملة بين الأبناء, والبعد عن الإهمال وعدم استخدام أسلوب التخويف أو التحقير إذا أخطأ الابن.
فإثبات الحب لا يكون بإحضار الطعام إلى الفراش مثلًا, وكذلك التأديب لا يكون بالشدَّةِ والقسوةِ والضربِ المبرحِ والزجرِ والنهرِ المستمرين، فهي تربِّي عقولًا ونفوسًا وأرواحًا وبيدها تجعل من ابنها قائدًا له مكانتُه وأهميتُه في الحياة.
فالحياة لا تسير بإعطاء الأوامر, وانتظار تنفيذِها فقط, لأن هذا يقتل ملكةَ الإبداع والابتكار في نفوس الأبناء, لا بدّ من وجود فرص للمشاركة والمناقشة وعرض وجهات النظر المختلفة.
ومن الأهمية بمكان تكليفُ الابن بأعمالٍ معينة حسب عمره وقدرته على أدائها, وعدم الانزعاج من فشلِه, لأنه من الفشل سيصل إلى النجاح, ومن خطئه يتعلمُ الصوابَ, ويتفادى الأخطاء, ويعطيه القدرة على التفكير السليم, حتى يخرج من الموقف بأقلّ الأخطاء؛ ففي سنه الصغير قد يقوم بترتيب فراشِه أو تجهيز أدواتِه, وكذلك تنظيم وقتِه, حسب الأعمال التي يريد إنجازَها, وبعد ذلك قد يشاركُ بشكلٍ مصغَّر في توزيع ميزانية الأسرة, ومن المهمّ تبادل الأدوار مع إخوته في البيت بين القيادة والتبعية حتى يعتاد ذلك, ومن الوارد أن يخطأ الابن أو يفشل في أداء عمل ما, ولكن هذا لا يعني أن نصبَّ عليه كل أنواع العقاب اللفظي والبدني, إنما نتناقش معه في أسباب الإخفاق, ونمدحه على محاولته ونكافِئه على عملٍ أنجزه ولو كان بسيطًا, حتى يشعرَ أن البيت هو واحة الحنان, ومرفأ الأمان الذي يستطيع بهما أن يواجهَ العالمَ الكبير بقوة وشجاعة وروح قيادية وثقة بالنفس.
ويوضّح د.أحمد العسّال أستاذ الشريعة ورئيس الجامعة الإسلامية بإسلام أباد أن "الوسط الذي يولد ويعيش فيه الطفل هو الذي يجعل منه شخصيةً قيادية أو اتّكالية, فإن كان الوسط الذي يعيش فيه مؤهَّلًا لذلك دينيًّا وتربويًّا كلما نَشَأَ الطفل وتربَّى على أن يكون شخصية قيادية، وأول القضايا المهمَّة في حياة الوالدين هي تعليم أبنائهما الصلاة, ومنها ينتظم الوقتُ لديهم في كل الأمور الأخرى, وتكيّف الصغير بأداء الصلاة ومدحه إنْ أتمَّها أمرٌ طيب, وذلك يكون بالرفق واللين والحب حتى يبلغ سبع سنين, وضربهم -برفقٍ ولينٍ أيضًا– إذا تركوها لعشر سنين كما قال (الرسول صلى الله عليه وسلم): "مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع, واضربوهم عليها لعشر, وفرِّقُوا بينهم في المضاجع"، فالطفل لا يتعلم بالشدة والعنف والقهر, إنما هو لبنةٌ طريَّة لا يبنغي أن نشدَّ عليه, وقال الإمام الغزالي: "إنَّ الطفل إذا تعامل معه الأب أو المعلِّم أو المربي برقة وأدب وصبر ينشأ حساسًا رقيقًا ينتبه إلى الخطأ, ويسعى إلى تصويبِه, وذلك من اللفتة الصغيرة، أما التعليمُ والتأديب بالضرب والتعنيف المستمرّ والمتواصل فإنه يحوِّل الطفل إلى شخص عنيدٍ متمرِّد يعتادُ الضرب ولا ينصلح حالُه أبدًا. فما كان الرفق في شيء إلا زانَهُ وما نزع الرفق من شيءٍ إلا شانه".
ويضيف د.العسّال أنّ "أهمية زرع خصال الخير في نفوس أبنائنا منذ سنوات عمرهم الأولى لأنها فترة تكوين الشخصية, فلا بدَّ من القدوة الحسنة وحسن تعهُّد الأبناء بالأدب والرعاية, ومن ذلك ضرورة تحفيظهم أجزاء من القرآن الكريم حسب سنِّهم ومقدرتهم على الحفظ، مع مراعاة الفروق الفردية بين طفل وآخر, وكذلك أهمية مدارستهم السيرة النبوية العَطِرَة بما فيها من مواقف رائعة لنماذج قيادية أثَّرَت التاريخ الإسلامي ببطولاتٍ وانتصاراتٍ عظيمة, وكم كانت الأمهاتُ على درجة كبيرة من الوعي بتعليم أبنائهن القيادة بدروسٍ عمليَّة, حيث كانت الأم تدفع بابنها إلى ميادين الحروب والغزوات وهو في سنٍّ مبكرة للغاية, ومثال آخر على ذلك هو تولي سيدنا أسامة بن زيد قيادة الجيش وعمره 13 سنة وغيرها من المواقف، وعلى رأس هؤلاء جميعًا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) إذ كان مثلًا يُحتذى به منذ صغَرِه, حيث برزت شخصيته القيادية في تحمله الصعاب والقدرة على التفكير السليم وحسن تدبُّر الأمور واتخاذ القرارات السليمة, فلم يتبعْ عادات قومه الجاهلية, ولم يسجد لصنم, أو يشرب الخمر, كما لم يلهِهِ اللعب والفراغ كسائر أترابه عن رعي الغنم لعمه, والذهاب في رحلات التجارة مع جده, حيث تربى (صلوات الله عليه وسلامه) على الأدب العالي والفضائل السامية ليكون لنا الأسوة الحسنة التي في اتباعها خير الدنيا والآخرة.
وينبّه د.أحمد إلى خطورة الإملاء والتلقين المستمرَّينِ على عقول ونفوس أبنائنا, فلا بدَّ من أن نفسحَ لهم المجال للتفكير والإبداع والابتكار الذي يخرجُهم من قالَب التقليد والمحاكاة لأي شيء, حتى ولو كان خاطئًا, إلى مساحة من الحرية في التفكير والحوار, ومعرفة ما يدور في أذهانهم من أفكار، والتي تتحول بعد ذلك إلى سلوكياتٍ وتصرُّفَات.
وكما قال أحد المربِّين: "دعْ الزهور تتفتّح" وذلك بأن نعطيَ لصغارنا الفرصة لإبداء الرأي والمشورَة في أمور حياتهم, في المأكل, والملبس, والدراسة, والهوايات, واختيار الأصدقاء, وكل ذلك في إطار من التوجيه والنصح, والمتابعة المستمرة من الوالدين, مصحوبة بالحب والفهم وإدراك طبيعة كل فترة في حياتهم.
ويرى خبراء الاجتماع أن الشخصية القيادية تتميز بصفات عدّة كالتفوق الخلقي والعلمي والثقة بالنفس, والقدرة على تحمل المسئوليات, وأن يكون لدى الطفل طموح وهمّة عالية, وأن يُعتمد عليه, وأن يكون حاسمًا في قراراته قويّ الشخصية, وأن يكون قادرًا على العطاء والبذل المتواصل, وأن يتصف بالنظام, وإدارة الوقت, والمجموعة, والقدرة على الإقناع والتأثير فيمن حوله.
وليست الأسرة فقط هى المسئولة عن إخراج القادة، بل إن كافة مؤسسات المجتمع لها دور في ذلك, ففي المدرسة مثلًا يتعلم الطفل القيادة عن طريق زرع الثقة في نفسه, وذلك بتشجيعه على أداء أعمالٍ معيَّنَة, ومكافأة المتفوقين منهم, وعدم توجيه اللومِ أو الإهانة أو التوبيخ للطالب الفاشل أو المقصر، خاصةً أمام أقرانِهِ حتى لا يُصابَ بالإحباط ويفقد الثقةَ في نفسه, ويجب كذلك مراعاة قدراتِ كلِّ طالب, بعدم تكليفِهِ بأمرٍ من الصعب تحقيقُه حتى لا يفشل, وإذا تكرَّرَ الفشل يصاب باليأس, كما أنّه من الضروري جدًّا تبادل أدوارِ القيادة, حتى يتعلم الأبناء أنها لا تدوم, فقائد اليوم قد يصبح جنديًّا أو تابعًا غدًا، وهكذا.
يجب أيضًا متابعةُ سلوك الأبناء لتعديله إن تغير, فالقيادة لا تعني البطش وفرض السلطة والرأي بالقوة, إنما هي القدرة على تحمل المسئولية وحمل الأمانة والتعاون المثمِر البنَّاء بين الجميع للوصول إلى الغاية المنشودة.
هدى سيد
موقع الإسلام اليوم</STRONG>