15 عاما بين فبراير 1996 وفبراير 2011 قضاها اللواء حبيب العادلي ملكا متوجا علي عرش مباحث أمن الدولة ووزارة الداخلية قبل أن يقف خلف القضبان.. رحلة صعود مدهشة مليئة بالحكايات والأسرار.
تكشف لنا خبايا عالم مثير في واحدة من أهم الوزارات علي الإطلاق, والمصادفات التي تصنع الأسماء اللامعة, والشروط الواجب توفرها فمن يفتح أمامه الأبواب للصعود إلي القمة, وقد تبدو الحكاية كما لو أنها تخص اللواء حبيب العادلي لكنها تتجاوزه إلي مصر ورجالاتها وكيف كانت تحكم, ونرويها لكم علي حلقتين, لم يحلم قط الطالب حبيب إبراهيم العادلي وهو ينتظم في طابور عرض التخرج في كلية الشرطة دفعة يناير عام 1962 أنه يمكن أن يصبح مديرا لمباحث أمن الدولة, أو وزيرا للداخلية!
كان العادلي منطويا, منعزلا إلي حد كبير عن زملائه, وتخلف في بعض المواد في السنة النهائية, فتأخر تخرجه ستة أشهر إلي دور يناير, ولم يكن تخلفه له أي تأثير علي حياته العملية, فالداخلية تفصل في التقدير بين عالم الدراسة وعالم الممارسة.
وإذا كان القدر له أحكام صادمة لقدراتنا علي الفهم, فالحياة لها مصادفات تجعلنا نضرب أدمغتنا في الحائط أيضا!
والعادلي من مواليد أول مارس 1938, لأسرة مصرية مستورة عائلها كان مدرسا بالتربية والتعليم, وأمضي طفولته وصباه وشبابه الأول في شارع سليمان جوهر بالدقي.
وقد تكون أولي المصادفات المهمة في حياته هي انضمامه إلي المباحث العامة في عام 1965, أي بعد تخرجه بثلات سنوات ونصف السنة, عمل خلالها في الأمن العام, ولا يعرف علي وجه الدقة من الذي رشحه للانضمام!
والمباحث العامة هي الاسم القديم لمباحث أمن الدولة, والذي غير اسمها هو ممدوح سالم وزير الداخلية في عهد الرئيس أنور السادات, وقت حركة تصحيح 15 مايو 1971!
وكانت المباحث العامة قد لاك سمعتها تصرفات مشبوهة كثيرة منها تنصت علي المواطنين وتسجيلات واعتقالات عشوائية, وقد أحرق الرئيس السادات بنفسه في مشهد حافل بـ ميدان التحرير أقرب إلي مشاهد السينما سكوب في فيلم لـمخرج الروائع حسن الإمام.
بالطبع ما نسمع به الآن أو ما نقرؤة عن مباحث أمن الدولة بعد اقتحام مقراتها, يبدو مخيفا وأكثر وحشية مما كانت عليه في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي!
ولا أحد يعرف هل ما حدث في مايو 1971 كان مجرد حلقة جديدة من مسلسل الضحك علي ذقون الشعب المصري أم كان رغبة لم تتحقق, وبالقطع لن نستسيغ علي أية حال علي: كيف عادت ريما إلي عاداتها القديمة أكثر قبحا وسفالة؟!
المهم أن حبيب العادلي التحق ضابطا في المباحث العامة, بالقسم العربي, وهو القسم الذي يتابع نشاط السياسيين واللاجئين والطلبة العرب في مصر, وأيضا يلاحق نشاط المصريين في الدول العربية, النشاط المعادي للحكومة, سواء من تنظيمات سرية هاربة أو أفراد معارضين علنيين أو ممولين في الخفاء لأنشطة داخلية عن طريق التحويلات المالية..الخ.
ولا يعد القسم العربي حسب تصنيف الجهاز من الأنشطة الرئيسية المهمة, لأن أغلب العرب الموضوعين تحت المنظار هنا أو المصريين تحت المراقبة هناك تتابعهم أيضا أجهزة أخري أعلي كفاءة ومقدرة واتصالات.
وعمل العادلي بهذا القسم 17 عاما متواصلا, وتعرف علي العديد من الشخصيات العربية, منهم سفراء وأمراء وشيوخ..ثم سافر إلي الكويت دبلوماسيا في السفارة المصرية هناك لمدة ثلاث سنوات, ثم عاد مرة أخري في النصف الثاني من الثمانينيات إلي جهاز أمن الدولة, بالقسم العربي حتي أصبح رئيسه.
في أوائل التسعينات من القرن العشرين تحديدا في صيف 1993, كان اللواء مصطفي عبد القادر يشغل منصب رئيس مباحث أمن الدولة, وحبيب العادلي الرجل الرابع أو الخامس في الجهاز حسب الأقدميات, وجاء علي العادلي الدور ليرقي إلي منصب مساعد وزير الداخلية!
لم تكن له درجة في الجهاز ولم يكن أمامه فرصه للصعود أبعد من نائب المدير, ولم يكن مقبولا أن يخرج ضابط أمن الدولة صاحب الشنة والرنة من الجهاز رأسا إلي المعاش قبل سن الستين, فهذا ينتقص من الهيبة والمكانة والسمعة أمام مؤسسات الدولة والعامة معا, فكان من التقاليد المرعية بصرامة أن يترقي إلي وظيفة أمنية أعلي في المسمي قبل خروجه من الخدمة!
كان اللواء حسن الألفي وقتها قد ترك منصبه محافظا لأسيوط وتولي وزارة الداخلية في إبريل 1993 خلفا لشيخ العرب اللواء محمد عبد الحليم موسي, وفي أول حركة تنقلات للشرطة خرج حبيب العادلي مساعدا للوزير مديرا لمنطقة القناة وسيناء, وظيفة إشرافية بلا مضمون, أشبه بما نقوله في منتديات القاهرة شلوت لفوق!
كان يمكن أن تصل رحلة الضابط حبيب إبراهيم العادلي إلي محطتها النهائية في منطقة سيناء حتي بلوغه سن المعاش في 1998
لكن القدر لعب لعبته..
لم يكن حسن الألفي مرتاحا إلي وجود اللواء مصطفي عبد القادر في مباحث أمن الدولة, لأسباب كثيرة, ليست مهمة في موضوعنا الآن, فرقاه إلي مساعد أول وزير الداخلية للأمن الاقتصادي..وأتي اللواء أحمد العادلي بدلا منه, وكان يتصور أن أحمد العادلي سيكون في منتهي الولاء له, وطوع بنانه ورهن إشارته, لكن اللواء أحمد سار في عكس الاتجاه, فهو شخصية قوية صارمة يحب ألا ينحني أو يمشي في معية شخص أو ركاب أحد أو ضمن شلة الوزير!
وشلة الوزير حسن الألفي هي التي أعادت كتابة تاريخ حبيب العادلي, هي التي خططت رحلة صعوده غير المتوقعة إلي رئاسة جهاز مباحث أمن الدولة أولا, ودفعت به دفعا في الطريق, متصورة أنها اختارت مديرا روتينيا منكسرا من مطاريد الجهاز, لم يبد عليه طموح غير عادي,وهذا النوع من غير الطموحين عموما لا يشكلون خطرا محتملا في المستقبل علي أصحاب المناصب الأعلي, فإمكاناتهم محدودة, ويسهل السيطرة عليهم, وتسييرهم كيفما اتفق, لكن العادلي كان أكثر خبثا ودهاء, داهن حتي تمكن, ومع أول فرصة انتهز الرياح القوية, وأبحر بسفينته بين عمالقة الداخلية الأشداء بمهارة فائقة إلي شاطئ مصالحه, وحين رست السفينة وجلس علي كرسي العرش, تخلص منهم دفعة واحدة في قرار واحد.. فدفعوا ثمن الذكاء المفرط والتخطيط الرهيب الذي صنعوه.. ولم يتعلموا من حكمة التاريخ: من تتصوره موسي هو في حقيقته فرعون مستتر, ولم يدركوا أن مصر وقتها كانت قد بدأت تسلم نفسها بالتدريج لقيادات ضعيفة من أصحاب الأداء المتوسط كانوا يختارون بعناية لنفس الأسباب في كل موقع تقريبا..
وكالعادة دفع هؤلاء الأقوياء مراكزهم ثمنا لحسابات أخطأوا فيها, لكن بعد أن دبروا أنفسهم جيدا, وعبروا إلي الجانب الأهم من نهر الحياة اقتصاديا وماليا: عقارات وأراض وشركات سياحة وأشياء اخري!!
حددت صداقات الألفي القديمة قبل أن يصبح محافظا لأسيوط تصرفاته في وزارة الداخلية..إذ كان مديرا لمباحث الأموال العامة..تربطه علاقات وثيقة بضباطه, وعلي رأسهم رءوف المناوي, وعلاء عباس, وفاروق حافظ المقرحي..
وكان الثلاثة من أقوي الشخصيات في مصر, فمصر في الثمانينيات كانت ساحة مفتوحة أمام مليارات الجنيهات جمعتها شركات توظيف الأموال من المصريين, والشركات لها معاملات وصلات علنية وسرية مع رجال الدولة ومؤسسات عامة وصحفيين وإعلاميين ووزراء ورجال أعمال واقتصاديين, و كلها مدونة في ملفات سمينة وثمينة كوثائق ومستندات أو تحريات!
باختصار كانت مصارين مصر مكشوفة أمام مباحث الأموال العامة, والمعرفة هي مصدر القوة الذي لا ينضب!
جاء الألفي إلي الداخلية وتجددت العلاقات القديمة داخل الوزارة, وتشكلت شلة عرفت باسم وزراء الداخلية الخمسة, أي أن الألفي لم يحكم الداخلية بمفرده, وإنما كان يشاركه أربعة من وزراء الظل إذا جاز هذا التعبير.. وقد أغلق بعضهم الشوارع المحيطة بمسكنه وأقام عليها المتاريس, ولم يكن يتحرك ذهابا وإيابا دون ركب يضاهي ركب الوزير الأول..
اللواء رءوف المناوي.. الذي اخترع تعبيرا جديدا للغاية وهو الإعلام الأمني من باب تدليل إدارة العلاقات العامة بالداخلية, اسم يناسب طموحه واحلامه, وما الذي يمنع أن يكون خلفا لصفوت الشريف وزير الإعلام حينذاك, فمثل هذه المناصب لا تدوم لأصحابها إلي الأبد؟!, ولا بد أن تكون البدائل جاهزة ولها اتصالات وعلاقات قوية, وقد صنع فعلا وزارة إعلام ذات نفوذ.
اللواء فاروق المقرحي..وانشئت له إدارة عامة لمباحث تنفيذ الأحكام..
اللواء رضا الغمري..عديل الوزير وتولي الإدارة العامة لشئون مكتب الوزير.
اللواء علاء عباس..وحكايته حكاية, فلم يكن في الخدمة, لأنه استقال من الداخلية وعمل في الحكم المحلي مع حسن الألفي في محافظة أسيوط, والقانون لا يسمح للضابط المستقيل بالعودة إلي الداخلية إلا خلال السنة الأولي فقط من خروجه منها, فكيف يعود علاء وقد أمضي ثلاث سنوات مستقيلا؟
دبروا له خطة بسيطة, أن يرفع دعوي أمام القضاء الإداري مطالبا بعودته إلي العمل, وعند نظر القضية يتكاسل محامي الحكومة في الدفاع عن الداخلية, فيصدر الحكم لمصلحة صاحب الدعوي, فتنصاع الداخلية لحكم القضاء, فلا مؤسسة فوق القانون, ويعود علاء عباس إلي الخدمة في مكتب الوزير!
في هذه الأثناء وقعت مصادمات مكتومة بين الوزير حسن الألفي واللواء أحمد العادلي مدير مباحث أمن الدولة, ولأسباب تتعلق بعقلية رجال الداخلية أو عقد نفسية أو واقع تفرضه الوظيفة, الله أعلم, كان أحمد العالي يراقب الوزير ورجاله المقربين, وفتح لكل منهم, خاصة أن الوزير الألفي كان له نقط ضعف إنسانية سهلها له ضابط كبير كان يصاحب الألفي في جولاته الخاصة كما لو أنه سكرتيره الشخصي, ولن نذكر اسمه.
فكان السؤال الذي فرض نفسه علي كبار الداخلية: كيف نتخلص من أحمد العادلي؟!
كان التخلص من العادلي مسألة صعبة جدا, فالعادلي له ظهر يحميه هو رئيس الجمهورية, الذي يؤمن بكفاءته ويقدره ويثق فيه, وقد تعاظمت ثقة الرئيس فيه بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها حسني مبارك في يونيو1995 بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا.
كان الرئيس قد عقد اجتماعا قبل الزيارة مع قيادات الأجهزة السيادية في الدولة, وطلب أحمد العادلي من الرئيس أن يصطحب معه سيارته المصفحة وحراسة مشددة مسلحة لا تسلم أسلحتها للأمن الأثيوبي مهما حدث..
وسأله الرئيس عن السبب, فقال له إن لديه معلومات شبه مؤكدة أن ثمة مؤامرة لاغتياله هناك من الجماعات المتطرفة.
وهي نفس المعلومات التي أوردتها أجهزة معلومات أخري, ونصحت بالسيارة المصفحة..
وحدث ما تنبأ به أحمد العادلي, فصار أيقونة الأمان لحياة الرئيس ومحاوره في مكالمات تليفونية طويلة..فمن الذي يستطيع أن يزيح أيقونة الأمان من مكانها؟!
لكن محاولات الإطاحة بأحمد العادلي لم تخمد أو تهدأ قليلا.
فكان السؤال: ومن البديل الذي لا يتعبنا ولا يناطحنا رأسا برأس؟
ودارت ماكينة البحث في كل اتجاه, وعن كل الأسماء المتاحة, حتي اهتدت إلي البقعة البعيدة في سيناء: حبيب إبراهيم العادلي!
لكن بقيت معضلة: كيف نأتي بـ مساعد وزير يشغل وظيفة هامشية إلي أرفع جهاز أمن في الداخلية؟!
وكان الحل بسيطا للغاية: ننقله إلي وظيفة مهمة يلمع فيها بضعة أشهر أولا؟!
وبعد فشل محاولة اغتيال الرئيس مبارك بأربعة أشهر فقط, وجد حبيب العادلي نفسه مديرا لأمن القاهرة( العاصمة), من الوظائف الحلم لأي ضابط..
كان أداء العادلي مثار سخرية من ضباط الداخلية المحترفين, فمن نصيبه كانت انتخابات مجلس الشعب1995, ومازالوا يذكرون له تصريحات إذاعية تفطس من الضحك مثل وتمكنت مديرية أمن القاهرة من ضبط سيارة محملة بكميات من الزلط والأسمنت لاستخدامها في إفساد العملية الانتخابية من جانب العناصر المناهضة
لكن لا السخرية ولا التندر ولا عربات الاسمنت ولا قذف الزلط في الانتخابات عاقت حبيب العادلي عن الوصول إلي رئاسة أمن الدولة..
كان تخطيط الشلة مثل القطار الرصاصة ينطلق نحو هدفه..
وكان أحمد العادلي علي الجانب الآخر يعد عدته, ويكاد يشعر بملمس مقعد وزير الداخلية تحته مع مطلع كل شمس, وكان يتوقع صدور قرار الرئيس بين لحظة وأخري, ليحيلهم جميعا إلي جهاز الكسب غير المشروع!
لكن تدبير الشلة هو الذي نجح..إذ اصطادوا أحمد العادلي من أضعف نقطة في نفسية الرئيس مبارك.
أقل من خمسة اشهر فقط شغل فيها حبيب العادلي منصب مدير أمن القاهرة, رفع خلالها وزير الداخلية تقريرا مرفقا به تسجيلات إلي الرئيس يفيد أن مدير جهاز أمن الدولة يتنصت عليه وعلي أسرته..
في صباح اليوم التالي من وصول التقرير إلي القصر الرئاسي في مصر الجديدة, رن التليفون الاحمر في مكتب وزير الداخلية, وجاءه صوت الرئيس غاضبا: من الذي يتولي وزارة الداخلية؟!
استشعر حسن الألفي الخجل.. وقال: أحمد العادلي يسبب لي متاعب كثيرة علي طول الخط, وكنت عايز أمشيه.
سأله الرئيس سؤالا هو في حد نفسه إجابة: وما الذي يمنعك؟!
كان الرئيس قبلها مقلوبا علي أحمد العادلي إلي حد ما, بسبب قضية سفينة محملة بسلاح وقادمة من إيطاليا, وكانت المخابرات العامة ترصدها من ميناء الخروج في طريقها إلي الشرق الأوسط, وتتابع خطواتها لمعرفة صاحب الشحنة, وتصادف أن كان لأمن الدولة مصدر علي متن السفينة, فترقب وصول السفينة, وفور رسوها قبضوا عليها, وصادروا سلاحها, وأسرع احمد العادلي يزف الخبر الهائل إلي رئيس الجمهورية, فما كان من الرئيس إلا أن طلب عمر سليمان رئيس المخابرات يسأله في أمر السفينة وكيف غفل عنها, فرد سليمان بأنه سبق وأبلغ الرئيس شفاهة بخبرها قبل فترة, في أثناء الاصطفاف لاستقبال رئيس دولة الإمارات العربية, وأن تصرفات أمن الدولة دون التنسيق مع المخابرات أفسد علينا معرفة الهدف النهائي لها.
بعد مكالمة الرئيس.. أصدر الوزير حسن الألفي قرارا بإنهاء خدمة أحمد العادلي وتعيين حبيب العادلي خلفا له علي عرش مباحث أمن الدولة كما كان مخططا من قبل!
أما أحمد العادلي فقد اهانوه, وأغلقوا الدور الذي يقع فيه مكتبه, ليغادر في أسانسير الجنود والافراد, وليس في الاسانسير الخاص بكبار الضباط!