للجادين فقط..
سلطان بن عبد الرحمن العثيم
هي للجادين فقط, نعم لهم وليست لغيرهم, ليست للمتلاعبين والمترددين والمسوفين والمؤجلين والمتخاذلين والمهزومين.. إنها للجادين فقط، ليس إلا.
إن لم تكن منهم فلا تتقدم.. وإن لم تكن بينهم فتوقف عن المسير.. وان لم تكن من خلالهم فراجع حسابك الأخير، وكن حرًّا محلقًا طليقًا بعد ما كنت أسيرًا..
في مدخل الدنيا عُلقت وعلى بوابة الحياة نُصبت.. للمارين والمغادرين أُبرزت.. وللمسافرين والمقيمين وُضعت.. إنها لوحة كبيرة هي سر الوصول والخلود وسر الرضا والصمود.. في عالم لا يعرف إلا الأقوياء الذين لهم بصمة في الأرض وثناء في السماء.
هي سرُّ النجاح والتألق في مسرح الحياة الكبير وميادين العيش والكفاح المتنوعة، وهي المفتاح الذهبي للأبواب المؤصدة، والدروب المغلقة، والظروف الصعبة، والتحديات الجسيمة، والأهداف العظيمة، والحياة الكريمة.
إنها الحياة الحالمة المتوهجة المبتسمة التي لا توهب إلا لمن أدرك أن الدنيا ومسلكها وكنوزها هي للجادين فقط.. إنها اللوحة التي علقت في الطرقات والميادين والأسواق والأندية، وعلى بوابة الزمن ومحور التاريخ وإرث الحضارة.. قرأها وعمل بها من قدَرُه السعد والفرح والسرور.. وتجاهلها من أهلك ذاته وذريته وذراريه بعجزه وكسله واستسلامه وضعفه وقلة حيله، وتفننه في الشكوى والتشكي ولوم الزمان والعتب على الأصحاب وهجاء الأهل والتشاؤم من الغد والتباكي على الماضي والتوجس من الحاضر..
فاته ما فاته مَن كان بائع كلام لا يطبقه وأقوال لا يعمل بها.. وخاب وخسر مَن تعاطى مع الحياة بمنطق الحظ والمصادفة، فمعادلة الحياة لا تعرف إلا الجادين والطموحين والمبادرين والإيجابيين.. هم من يكونون في المقدمة دومًا، وهم بالطبع مَن يقطف أكثر الثمار؛ لأنهم أول الناس وصولًا للبستان.
ولعلي هنا أتطرق إلى إشكالية واضحة للعيان بلا برهان.. وهي تأثير الطفرة النفطية في منتصف السبعينات على مواطني الخليج العربي وعلى سلوك المواطن الخليجي، ومسلكه وقناعاته، وتصرفاته وتفكيره، وليس الكل، ولكن الغالب منهم؛ حيث أضحت الراحة مقدمة على العمل، والاسترخاء على الجدية، والإجازة على الإنتاجية، والاتكالية على الإنجاز، واللامبالاة على الإحساس بالمسئولية، والهموم السطحية والشكلية على جوهر الحياة ومضمون الرحلة الإنسانية العظيم.. وأصبح بعض أفراد هذه المجتمعات رغم ما يتوفر لديهم من إمكانيات مميزة ومغرية ومنافسة على أغلب الأصعدة، على مستوى الفرد والجماعة، للنجاح والتألق في الحياة ومدارجها الطويلة.
إلا أن الهمة عند البعض خارت، والعزيمة ضمُرت، والقشور سيطرت، والمظاهر طغت، وأصبحنا نذهب إلى الاستراحة لنستريح من الراحة ذاتها، ونستزيد منها بعد يوم ربما مرَّ عاديًا بلا إنجاز أو تطور أو عمل.. وأصبحت الشوارع والميادين والأسواق مكانًا للدوران والتسكع وقتل الأوقات بدل استغلالها واستثمارها عند الجنسين، بالإضافة إلى ارتياد المقاهي الهابطة التي يقدم فيها الموت بطعم الفراولة، حيث يحتضن فيها البسطاء الشيشة، وينفخون في الهواء بكل غباء، عبر عمل متسلسل يؤدي إلى الفناء !!.. منقصين من أعمارهم ومهدرين لتاج الصحة الماسي الذي زين رؤوسهم. حتى لو أن أحدهم زار إحدى المستشفيات لبعض الوقت ورأى من سُلبت منهم قّوتهم وصحتهم وقدرتهم على العيش لَمَا مرَّ من أمام هذه الأماكن إطلاقًا.. وفضّل اقتناء كتاب يفيده، أو علم يطلبه، أو مارس رياضة تقويه، أو كتب مقالًا يعليه، أو جالس الأخيار، وأطعم الأبرار، وانشغل بالرصين والقيم من الأفكار.
وعلى النقيض تمامًا تجد جيلًا محافظًا على الميزة المميزة لجيل الآباء والأجداد، وهي العيش بجدية وانضباط وحماس وإقبال وتقدير قيمة الحياة وفرصة العيش واحترام الأوقات وتثمين الأعمار، وإعطاء الأمور مقدارها، ووزنها في ميزانها الطبيعي، والإقبال على كل أنواع الأعمال الحرفية والمهنية والتجارية والزراعية والصناعية، بلا كلل أو ملل، والحرص التام على أداء كل الأعمال بلا قيد أو شرط، وتقديم العمل الحرّ ذي المتعة والبركة والمنفعة على العمل الوظيفي ذي الروتين والدخل المحدود.
ومن هنا أجزم بأننا أمام فرصة تاريخية كبيرة، حيث توفر العلم الذي حرم منه الأولون، وتيسرت الأسباب والسبل، وبذلت التجارب والأفكار والآراء السديدة، وتنوعت وسائل الدعم والمؤازرة، واستقرت الأوضاع، واستتب الأمن، ولم يبقَ علينا إلا العمل الجاد واستغلال الفرص الذهبية من حولنا على جميع المستويات لتحقيق مشاريعنا الحياتية على كافة المستويات، وتحقيق كافة الطموحات بعزم لا يلين وهمة لا تهين وأهدف سامية لن تستكين..
وهنا أطرح تلك القصة التي تعتبر منهاجًا في العزيمة والإصرار والعيش بجد وجدية والفوز بلذة الوصول وتحقيق المأمول، حيث "كان هناك شاب صغير حاول أن يحفظ الحديث, وحاول, لكنه فشل أن يكون كغيره من الفتيان الذين حفظوا الكثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.. لقد كاد اليأس أن يتمكن من قلبه، وكاد الفشل أن يلاحقه طوال حياته.
قرر يومًا أن يمشي بين بساتين القرية, فأخذ يمشي طويلًا، واليأس قد أحاط بقلبه وعقله، فاقترب من بئر في وسط بستان, فجلس قربها وراح يفكر, وفي أثتاء جلوسه قرب البئر لاحظ أن الحبل المعلق في دلو البئر قد أثر بالصخر الذي يحيط برأس البئر، وقد فتت الصخر من كثرة الاحتكاك، صعودًا ونزولًا, إذن هو التكرار والزمن..
فقرر هذا الشاب أن يحاول مرة ثانية في حفظ الحديث، وعاهد نفسه أن يحفظ الحديث حتى لو كرره 500 مرة, فمضى يحاول ويحاول، ملتزمًا بعهده, حتى كانت أمه تملُ من تكراره وترحم حاله, ومع مرور الزمن وقوة الإصرار والمثابرة, استطاع أن يحفظ القرآن ويفتي الناس ويدرس، وعمره دون العشرين, فألَّف التصانيف والمؤلفات الكثيرة, واستحق لقب شيخ الإسلام وإمام الحرمين, إنها قصة الفقيه الموسوعي (أحمد بن حجر الهيثمي).
إنه قصر الجادين المخلصين الصابرين الذين لا يكلّون ولا يملّون.. ولا يتفننون في الدلال لأنفسهم أو لذويهم، فالدلال المبالغ فيه قاتل للنفس والروح والعزيمة ومهلك للمال وللولد.. يحوّل الإنسان إلى كائن مشلول بلا منجَز أو بصمة.
فعودوا أنفسكم على عمل أي شيء وكل شيء.. والصبر على ما لا تريد حتى تجد ما تريد.. وإياكم ورفع العلَم الأبيض أبدًا، فهذه الدنيا ليست للأذكياء فقط، إنما هي للجادين من البشر؛ أهل الصبر والظفر.. فلا تفوتوا الفرصة في القعود وطلب العون من الله بلا عمل.. والدعاء في الليل بلا بذل للأسباب.. فهذا خلل لا يقع من عاقل، وزلل لا يكون من إنسان مليء بالمواهب والقدرات والطاقات والأطروحات والطموحات.. فبادروا وانطلقوا، واعلموا أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.. وأن كثيرًا من الأعمال العظيمة كانت أفكارًا صغيرة، وربما مجنونة في البداية، لا يصدقها الناس.. وإنّ نفسك إذا كيفتها على العمل الجاد وصعود الأوتاد تكيفت وأعطت وبذلت وأنتجت.. وعلى العكس إذا كيفتها على التمني والتشكي والركون والخمول والنوم بلا يقظة لن تستطع حتى القيام إلى صلاتك.. فهي أمانة فأحسن تربتها، وضعها على أفضل الطرق، واعزم، وتوكل، واعمل، وانتظر الأخبار السعيدة، فهي بلا شك على مقربة من بابك.. فترقب وابتسم وشمر عن ساعديك.
تأصيل
قال تعالى: "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"(الملك:15).
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا، ولكن قل، قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان”.
محبرة الحكيم
التدرج في أحوال الحياة وأعمال الإنسان عبر البدايات البسيطة والصغيرة والمتواضعة وانتقالها إلى منازل العظمة والكبر والتوسع والإنتاج هي من نواميس الكون الطبيعية التي جبل الله عليها البشر والكون.. وهنا تكمن سنة خلق السموات والأرض في ستة أيام ليعلمنا الله سبحانه معنى التدرج في أي مشروع من مشاريع الحياة المختلفة التي لا تصل إلى منتهاها وتكبر وتشع نورًا إلا بجدية وصبر وتفاؤل وحسن إدارة وإيمان راسخ.