لطالما سمعنا هذه الكلمات فى رثاء العديد من الاشخاص, ما بين اقارب, و جيران, و زملاء عمل, و ما الى ذلك ممن نعرفهم,
او حتى لا نعرفهم..!
دائما ما تجد وفود المعزيين و هم يدخلون الى السرادق, او الى منزل الفقيد, و علامات الحزن مرسومه على وجوههم,
ثم تنهال عبارات العزاء المصحوبه بالمديح و الثناء على شخص المتوفى, و احيانا تنهمر الدموع من العيون لفراقه, مدلله على
مدى الحب و التقدير اللذان حظى بهما المغفور له..
بالطبع هذا سلوك محمود من الناس, فمن المفترض ان نذكر دائما محاسن موتانا, و ان نعدد فضائلهم و خصالهم الطيبه..
فهذا سلوك لا غبار عليه.
و لكن...
دائما ما شغلتنى فكره غريبه..ترى هل علم المرحوم و هو على قيد الحياه بكل هذه المشاعر الفياضه تجاهه من الناس..؟!
هل تفضل احد من جموع المعزيين الغفيره بان ابدى امتنانه و تقديره لذلك المتوفى و هو لا يزال حى يرزق, ام اكتفى بالاسهاب
في مدحه بعد ان فارق الحياه..؟!
كثيرا ما اشعر باننا لا نمتدح شخص ما او نذكر امر حسن عنه الا بعد وفاته, و كاننا ندخر الاراء الجميله و النظره الحسنه اليه
فقط للحظه وفاته, و كانه محرم علينا البوح بها اليه و هو على قيد الحياه, او كاننا لا نتذكر الشخص نفسه الا بوفاته...!
ترى امن الممكن هذا..؟!!
هل من الممكن ان نكون لا نتذكر الانسان الا مع خبر وفاته فقط..؟!
يا الهى..امن الممكن ان يحيى الانسان منا فى هذه الدنيا, و لا يذكره احد او يشعر بوجوده حتى يتوفاه الله..و من ثم يسارع
الناس اليه و قد تذكروا انهم لم يخبروه عن تقديرهم له, و انهم يكنون له الحب و الاحترام..فتتحول تلك الاراء الى رثاء رقيق
لمواساه اهله و ذويه..؟!!
يا لها من صوره غريبه....!
ءأصبح خبر وفاه الانسان هو اهم اخبار حياته..؟!
ءأصبح هو جواز مروره الى ذاكره الناس..؟!
و ماذا عن حياته..؟!
الا يوجد بها ما يستحق ذكره او تقديره , و هو لا تزال انفاسه تتردد فى صدره..؟!
ترى من المسؤول عن هذا..؟
هل الشخص المتوفى هو المسؤول..؟
هل لم تكن له اعمال تستحق التقدير, فلم يتذكره احد او يهتم به, و بالتالى فان رثائهم و كلماتهم الرقيقه عنه هى من
باب المجامله و المواساه لاهله فى ذلك الموقف..؟
و لكن ماذا لو كان العكس صحيح..
ماذا لو كان المتوفى شخص مميز بحق, ذو بصمه واضحه على محيطه و ربما على ما هو ابعد..؟!
ماذا لو كانت له اعمال جليله تستحق ما هو اكثر من التقدير الادبى و المادى و المعنوى, و كل انواع التقدير..؟
ماذا لو كان هذا الفقيد هو احد ابرز العلماء فى مجاله, ماذا لو كان اكثر ابناء جيله موهبه, ماذا لو ان اعماله قد اثرت الحياه
الانسانيه كلها..؟
من الملام فى هذه الحاله..؟!
ان القائمه تكتظ باسماء لاشخاص اثروا الحياه الانسانيه باعمال عبقريه, و مع هذا لم يتذكرهم احد و هم على قيد الحياه,
لم يلفت الأنتباه اليهم الا خبر وفاتهم, و الذى دائما ما تصاحبه ظروف ماسويه, فننتبه فجأه انه كان بيننا شخص نابغ,مميز,
و اننا كان يجب ان نقدره اكثر من هذا, فنسارع بنظم قصائد الرثاء, و تمتلئ الصحف باخبار عنه, و قد يمتد الامر للمسؤليين,
فيتكرموا بأهداء احد الاوسمه الى روح الفقيد, او ربما غيروا اسم الشارع الذى كان يعيش فيه, و يطلقوا عليه اسمه..!!!
اما كان من الممكن ان يحدث شئ واحد من هذا و هو حى يرزق, كى يرى ثمره مجهوده, و يعلم ان هناك من يشعر بوجوده
فى هذه الحياه..؟!
اعلم ان مثل هؤلاء الاشخاص لا ينتظرون كلمات الشكر و المكافأت على اعمالهم ...
و لكننى اعلم ايضا ان كل انسان يشعر بالراحه حين يدرك ان هناك من يعلم بوجوده, و يقدر جهوده حتى ولو بالكلمه الطيبه..
فذلك يشعره بأهميه العمل الذى يقوم به, فيحفزه, و يدفعه الى الأمام باستمرار, كى يسهم بالمزيد لاسعاد من حوله..
ان الطاقه الروحيه المستمده من كلمه التقدير الصادقه, النابعه من القلب دون رياء,قد تمكنه ان يبدع اكثر و اكثر..
و لكننا كاشخاص, و ايضا كمجتمع..نضن على مثل هؤلاء الناس بما هم اهل له, و يستحقونه عن جداره..
و دائما ننتظر احد امرين..اما ان يتوفاهم الله , فحينها نشعر بقيمه وجودهم بيننا, فنبدأ فى تقديرهم بعد فوات الاوان...
و اما ان يقدرهم اناس اخرون, او مجتمع اخر, فحينها نلهث ورائهم كى نكرمهم و ننسبهم الينا, او ننسب انفسنا اليهم,
فتسمع كلمه فلان الفلانى المصرى..ابن مصر البار..
و يبدأ الكلام عن الاهتمام الوهمى الذى حظى به و الذى دفعه لهذه الانجازات, و التى ما كانت لتتم لولا عين الدوله الخبيره
التى توسمت فيه النبوغ و العبقريه, و كفلت له الرعايه...
و يظهر بصحبه المسؤوليين و هم يصافحونه و يعانقونه.. ثم يقلدونه احد الاوسمه, و...و هذا كل شئ..!!!
صوره اقرب للسرقه منها للتقدير..
نعم السرقه..سرقه مجد هذا الشخص, و استغلاله لرسم صوره وهميه عن الاهتمام بالموهوبين و تقديرهم,
و هو كلام عار تماما من الصحه..
حتى اننا لا نجيد هذه السرقه...
فنجدهم بدلا من ان يحاولوا الاستفاده من هذا الشخص بشكل عملى, كأن يصبح مسؤلا عن شأن من شؤون الدوله,
كى يطوره بما لديه من افكار جديده...تجدهم لا يقدمون له الا تقدير وهمى من خلال الأوسمه و اللقاءات التلفزيونيه..
دون ادنى استفاده حقيقيه او تقدير حقيقى لعلمه و عمله..!!
فكل ما يهم هو الظهور فى الصور بجواره لاثبات الوجود فقط لا غير..!!!
يا للعجب.. حتى حين تأتينا فرصه لتقدير شخص ما و هو على قيد الحياه..نحولها الى هذه الصوره الرخيصه من
الاستغلال, و المصالح الشخصيه.*
يجب ان نبدأ من الان فى اصلاح نظرتنا للاخرين, سواء على المستوى الشخصى او المجتمع ككل..فهناك الكثير من الامور
التى قد تتغير و تغيير معها شكل حياتنا للافضل, اذا ما اعطينا كل ذى حق حقه, ونال كل انسان قدره..
فلنبدأ بأنفسنا حتى لا نحاسب غيرنا و نحن نقع فى نفس الاخطاء..
فلنبدأ من الان ان نشعر بالناس من حولنا, و ان نخبرهم بما فى انفسنا تجاههم من مشاعر و تقدير و اهتمام,
فلنمنحهم لمحه من الحب الصادق, ولو بكلمه طيبه..
فلنبدأ بهذا مع اقرب الناس الينا..فلنبدأ بأهالينا..فلنمنحهم القدر الذى يستحقونه, و ان كنا لن نوفيهم حقهم علينا, و لكن
فلنحاول و نبذل جهدنا, بالقول و الفعل..
و ليمتد هذا ايضا ليشمل محيطنا بالكامل من جيران و اصدقاء و زملاء و اى شخص بيننا و بينه صله, و يستحق التقدير على امر ما..
فلنخبرهم بما يستحقونه, و بما هم اهل له, و لنمنحهم لمحه من السعاده الحقيقيه و هم على قيد الحياه, ولا ننتظر حتى
نسمع عن وفاه احدهم, فنسارع بسكب الدموع و نقول...
الله يرحمه..كان راجل طيب..