إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا . من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . " سورة آل عمران ، الآية : 102 "
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) " سورة النساء ، الآية : 1 "
( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (71) ) " سورة الأحزاب ، الآيتان : 70،71 "
أما بعد :
فإن الناس مازالوا منذ أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج ، يفدون إلى بيت الله الحرام في كل عام ، من أصقاع الأرض كلها ، وأرجاء المعمورة جميعها ، مختلفة ألسنتهم ، متباينة بلدانهم ، متمايزة ألوانهم ، يفدون إليه وأفئدتهم ترف إلى رؤيته والطواف به ، الغني القادر والفقير المعدم ، ومئات الألوف من هؤلاء ، يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة ، تلبيةً لدعوة الله ، التي أذن بها إبراهيم عليه السلام ، منذ سنين عديدة .
أيها المسلمون : إنه ليس من المستغرب أن يذكر المسلم شيئاً من قصة إبراهيم خليل الرحمن وشيخ الأنبياء ، مع قومه المجرمين الظالمين ، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اقتلوا الوزغ ، فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم ) وفي رواية لأحمد : ( إن إبراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ ، فإنه جعل ينفخها عليه ) .
سبحانك يارب ، أي دين هذا الذي هديتنا إليه ، ورزقتنا اتباعه أية مشاركة تلك المشاركة ، التي أوجدها الإسلام بين أفراده !!
منذ مئات السنين ، وكلما رأى المسلمون وزغاً سارعوا إلى قتله . لماذا ؟ أمن أجل أنه دويبة صغيرة فإن الدواب الصغار كثير ، ولم نؤمر بقتلها جميعاً ، أم من أجل أنه يلحق بالحشرات الضارة ، فإن الحشرات الضارة لا تحصى ، إذاً من أجل ماذا ؟ من أجل أنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم عليه السلام ، ولأجل أن عدو إبراهيم إنما هو عدو لكل مسلم ، وسيبقى المسلمون على ذلك حتى يبعث الله الأرض ومن عليها ، فلا ود ولا محبة لأعداء الدين ، ولو كانوا حشرات صغيرةً كالأوزاغ .
إذاً ، فالمسلمون كالجسد الواحد ؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، وبذلك يصير الدين الخالص أساس أخوة وثيقة العرى ، تؤلف بين أتباعه ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة ، وحدة راسخة الدعامة ، شامخة البناء ، وهذه الوحدة هي روح الإيمان الحي ، ولباب المشاعر الرقيقة ، التي يكنها المسلم لإخوانه ، حتى إنه ليحيا بهم ويحيا معهم وكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة . إن الأثرة الغالبة آفة الإنسان ، وخدش فضائله ، إذا سيطرت نزعتها على امريء محقت خيره ، وأحيت شره ، وحصرته في نطاق ضيق خسيس ، لا يعرف إلا نفسه ، ولا يهتاج بالفرح أو الحزن إلا لما يمسه من خير أو شر ، أما الدنيا العريضة ، والألوف المؤلفة من البشر المسلمين ، فهو لا يعرفهم إلا في حدود ما يصل إليه عن طريقهم ، ليحقق آماله أو يثير مخاوفه .
وقد حارب الإسلام هذه الأثرة الظالمة بالأخوة العادلة ، فمن حق أخيك عليك أن تكره مضرته ، وأن تبادر إلى دفعها أما أن تكون ميت العاطفة ، قليل الاكتراث – لأن المصيبة وقعت بعيداً عنك ، فالأمر لا يعالحمد لله – فهذا تصرف لئيم ، وهو مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة العامرة ، التي تمزج بين نفوس المسلمين فتجعل الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه .
أيها المسلمون : إن الحجاج إذ يستبدلون بزيهم الوطني زي الحج الموحد ، ويصبحون جميعاً بمظهر واحد ، لا يتميز شرقيهم عن غربيهم ، ولا عربيهم عن عجميهم ، كلهم لبسوا لباساً واحداً وتوجهوا إلى رب واحد ، بذكر واحد : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، وتراهم وقد نسو كل الهتافات الوطنية وخلفوا وراءهم كل الشعارات القومية ، ون الحمد لله وا كل الرايات العصبية ، ورفعوا راية واحدة هي راية لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، يطوفون حول بيت واحد ، مختلطةً أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ، يؤدون نسكاً واحداً إن الإسلام يوم شرع الحج للناس ، أراد فيما أراد من الحكم ، أن يكونوا أمةً واحدة ، متعاونةً متناصرة ، متآلفة متكاتفة ، كمثل الجسد الواحد .
وبهذه الصفة وتلك الجموع يقرر الإسلام أنه ليست هناك دواع معقولة ، تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتاً متناحرين ، بل إن الدواعي القائمة على الطريق الحق ، تمهد للمسلمين مجتمعاً متكافلاً تسوده المحبة ، ويمتد به الأمان على ظهر الأرض ، والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ، ليجعل من هذه الرحم ، ملتقى تشابك عنده الصلات ، وتستوثق العرى . ( يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) " سورة الحجرات ، الآية : 13 " . إنه التعارف لا التفاخر ، والتعاون لا التخاذل ، فأما اختلاف الألسنة والألوان . واختلاف الطباع والبلدان ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف ، والوفاء بجميع الحاجات .
وليس للون والجنس واللغة والوطن ، وسائر المعاني من حساب في ميزان الله ، إنما هنالك ميزان واحد ، تتحدد به القيم ، ويعرف به فضل الناس ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) " سورة الحجرات ، الآية : 13 " والكريم حقاً هو الكريم عند الله ، فهو يزنكم عن علم وخبرة (إن الله عليم خبير ) " سورة الحجرات ، الآية : 13 " .
وأخوة الدين تفرض التناصر بين المسلمين ، لا تناصر العصبيات العمياء ن بل تناصر المؤمنين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وردع المعتدي وإجازة المهضوم ، فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده في معترك ، بل لا بد من الوقوف بجانبه على أي حال لإرشادة إن ضل وحجزة إن تطاول ، والدفاع عنه إن هوجم ، والقتال معه إذا استبيح ، وذلك ، معنى التناصر الذي قرره الإسلام ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) " رواه البخاري وغيره " .
ومما اتخذه الإسلام لصيانة الأخوة العامة ، ومحو الفروق المصطنعة ، توكيد التكافؤ في الدم والتساوي في الحق ، وإشعار العامة والخاصة بأن التفاخر بالأنساب والألوان والأجناس أمر باطل " لأن الكل من أدم وأدم من تراب " فما يفضل المسلم صنوه إلا بميزة يحرزها لنفسه بكده وجده ، ألا وهي التقوى ، فمن لا تقوى له ، لم ينفعه أسلافه ولو كانوا تقاة الدنيا .
أيها المسلمون : لقد كان كل شيء يهون على كفار قريش ، إلا تحطيم الفخر بالأنساب ، والاغترار بالآباء والأجداد ، وما كان يخفى عليهم ما في عقائدهم من سخف ، ولم يخف عليهم أن ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم خير مما هم عليه من عقيدة ، ولكنهم كانوا يدفعونها بكل ما يملكون من قوة .. لماذا ؟ وما هو السبب ؟ لأن ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فيه تحطيم لسيادتهم وفوارقهم واعتزازهم بأنسابهم . فقد كانت جمهرة الحجيج تقف بعرفات وتفيض منها ، أما قريش .. فكانت تقف بالمزدلفة ومنها تفيض ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم وهو من أشراف قريش يقف بعرفات ، ويأمر الله قريشاً فيقول : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) " سورة البقرة ، الآية : 199 " تحقيقاً للمساواة بين المسلمين .
وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل العربي من عامة الناس ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم – وهو من قريش – فزوج ابنة عمه زينب بنت جحش من مولاه زيد وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا بني بياضة ، أنكحوا أبا هند ، وأنكحوا إليه ) " رواه أبو داود والحاكم بسند جيد " وكان حجاماً رضي الله تعالى عنه .
وبهذا كله .. يقف الإسلام فريداً بين جميع أنظمة الدنيا، التي عرفها البشر قديماً وحديثاً . ويقف الإسلام . فريداً في مداراته لجميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ، وإرخاصه لجميع القيم التي يتكالب عليها الناس ، ليرفع لواء ضخماً واحداً ، يتسابق الجميع ليقفوا تحته ، ألا وهو لواء التقوى ؛ الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من أخطبوط العصبية للجنس ، والعصبية للأرض والعصبية القبلية ، بل والعصبية ضد الرق ليقول صلى الله عليه وسلم ( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ، ومن أخصى عبده أخصيناه ) " رواه أحمد والأربعة " وينقذ البشرية من عصبية الرجل ضد المرأة ، في الوقت الذي كانت الجاهلية تئد فيه البنات ، فيقول الله عز وجل : ( وإذا الموءودة سئلت ( بأي ذنب قتلت )" سورة التكوير ، الآيتان : 8 ، 9 " ويقول ( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) " سورة النساء ، الآية : 32 " قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية . تحت قدمي موضوع ) " رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الداعي إلى رضوانه ، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه .
أما بعد :
فيا أيها المسلمون : إنه في الوقت الذي جاء الإسلام فيه محارباً للعصبية ، ومبطلاً لها ، لم يترك باباً من أبوابها إلا أغلقه ، ولا نافذةً من نوافذها إلا طمسها ، سوى عصبية واحدة ، ذات صفة محمودة ، وطبع مندوب ، ألا وهي العصبية للدين والعقيدة الصحيحة ، فلا توالي إلا في الدين ، ولا تعادي إلا فيه ، تحب من أحبه ولو كان أبعد بعيد ، وتبغض من أبغضه ولو كان أقرب قريب ، لا تغضب إلا لله ولا تنتصر إلا لله ، لله وحده ، واعلموا أيها المسلمون ، أن من لم يحمل شيئاً من ذلك ، فهو ممقوت عند الله ، منبوذ بين المسلمين تنفر منه الطباع السليمة ، والقلوب المؤمنة ، لا يحلو له طعام ، ولا يهنأ له شراب ، ولا يجد أثر السعادة ، ولا يذوق حلاوة الإيمان ، فهو نطيحة متردية . نعوذ بالله من ذلك .
ثم اعلموا أيها المسلمون أنكم وإن وفقتم لنزع العصبية الجاهلية من قلوبكم ، وطهرتم منها مجتمعكم فلن تسلموا من عصبية كبرى خارجة عن إرادتكم ، وهي ليس بأيديكم ، ولا يمكن لمسلم ولا مسلمة أن يعيش على هذه البسيطة ، إلا وينال من بلائها ويذوق من مرارتها ، إنها عصبية الكفار لكفرهم ، تلكم العصبية التي تغلي في نفوسهم ضد المسلمين ، والتي لم يسلم منها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه العصبية باقية إلى قيام الساعة ، لا تنطفئ نارها ، ولا ينام أربابها ، وربما تقنعوا بأقنعة كثيرة لتغطيتها ، إلا أنها لا تخفى على ذي لب من المسلمين .
وهي وإن علت تارةً ، وانخفضت أخرى ، إلا أنها في هذا العصر ، قد كشرت عن أنيابها ، وشمرت عن سواعدها ، فلم تعد تلكم الأقنعة ، تجدي ، ولم يبق لذلك التلون من سبيل ، إذا لم يبق إلا أن أعلنوها صريحةً واضحة ، وهذا الإعلان ، وتلكم الصراحة لم تكن بخط اليد ، ولا بنطق اللسان فحسب ، بل بنطق الدماء ، وبكاء الثكالى ، وأنين الأيتام إنه الدم المسلم المراق .
فا تقوا الله أيها المسلمون ، وصلوا على من أمركم بالصلاة عليه فقال عز من قائل عليم ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) " سورة الأحزاب ، الآية : 56 " .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين .
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين . برحمتك يا أرحم الراحمين .
ربنا آتتا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله اذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون