الحمد لله العلي القدير، والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ورضي الله عنهم وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ووظائفه
تحدثت في اللقاء الماضي عن خمس من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، وأواصل الحديث في مطلع هذا اللقاء بذكر ما بقي من الخصائص الواردة في الحديثين اللذين ذكرتهما - فيما مضى - فأقول وبالله التوفيق:
الخصيصة السادسة: ماجاء في قوله: «أعطيت جوامع الكلم»، وهذا دليل على قوة بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغ من ذلك مبلغًا عظيمًا لم يصل إليه أحد قبله، وهذه كلماته صلى الله عليه وسلم بين أيدينا تكون قليلة الألفاظ، ولكنها كثيرة المعاني والفوائد، وما يزال أهل العلم وشراح الحديث يشرحون كلماته اليسيرة في الصفحات الكثيرة.
قال النووي - رحمه الله-: «وكلامه صلى الله عليه وسلم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني»(1).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مشهورًا بين قومه بالفصاحة والبلاغة وإن كان فصيحًا بليغًا، لأن الله تعالى صرفه عن مظهر فصاحتهم وبلاغتهم، وهو الشعر والخطابة، في الأسواق والمجامع لتكون حجته في إعجاز القرآن بالبلاغة أظهر وأبعد عن الشبهة، فلا يقولن قائل: إنه تمرن على الكلام البليغ وزاوله الزمن الطويل حتى ارتقى فيه إلى القمة الْعُلْيى التي لا يطاول فيها، وقد شهد الله في كتابه للنبي صلى الله عليه وسلم بالقدرة على الكلام البليغ، وأمره به وفوض أمر الوعظ إليه فقال:
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا
[النساء: 63].
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ضمادًا قدم مكة، وكان من أزد شنوءَة(2)، وكان يَرْقِي من هذه الريح(3)، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعلَّ الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح وإن الله يَشْفِي على يدي من يشاء فهل لك(4)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد». قال: فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر(5)، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وعلى قومك». قال: وعلى قومي»(6).
فهذا رجل من المشركين شهد بفصاحة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم وأفاد أن كلامه - عليه الصلاة والسلام - ليس من جنس كلام السحرة والكهان. قال القاضي عياض في «الشفاء»: «وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل؛ سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله، ومن تأمل حديثه وسيرته علم ذلك وتحققه». وقد كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم يدخل إلى القلوب وتصغي إليه الآذان لما اشتمل عليه من روعة الفصاحة والبيان، وكان يجمع في كلامه بين الترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، والكلام إذا اشتمل على ذلك عظم وقعه في القلب.
الخصيصة السابعة: أنه خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
[الأحزاب: 40].
وقد صرحت هذه الآية بأن النبوة والرسالة ختمت بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، وإنما ختمت النبوة به، لأن الله شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان ومكان، والقرآن الكريم لم يدع شيئًا من أمهات المصالح إلا جلاَّها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من ادعى النبوة بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعقيدة ختم النبوة بنبينا صلى الله عليه وسلم من القضايا العقدية التي قررها القرآن، وبينها خير الأنام صلى الله عليه وسلم وأجمع عليها الصحب الكرام ومن تبعهم بإحسان، قال القرطبي - رحمه الله - في تفسيره للآية السابقة: «قال ابن عطية: هذه الألفاظ عند جماعة من علماء الأمة خلفًا وسلفًا متلقاة على العموم التام مقتضية نصًا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم »(7).
وقال الإمام الحافظ ابن كثير: «هذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، فلا رسول بطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة»(
.
وقال الخطيب الشربيني: «والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقًا بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقًا استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتمًا على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية، أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت من قبله وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام»(9).
وقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، والمتتبع لها يجد أنها جاءت بصور شتى وألفاظ متعددة، وهي في جملتها تبلغ حد التواتر.
يقول عبد القاهر البغدادي - رحمه الله-: «وقد تواترت الأخبار عنه بقوله: «لا نبي بعدي»(10)، ويقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على ذلك: «والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلوات الله وسلامه عليه إليهم، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر تعالى في كتابه ورسوله في السنة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده ليعلموا أنَّ من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك، دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعوذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد «الأسود العنسي» باليمن، و«مسيلمة الكذاب» باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان - لعنهما الله-، وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال»(11).
وسأذكر الآن بعض الأحاديث النبوية الدالة على ختم النبوة والرسالة به صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟» ثم ذكر الشفاعة من بعض الأنبياء واعتذارهم عن القيام بها، حتى يذهب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: «يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، استغفر لنا إلى ربك...»(12).
ففي هذا الحديث نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، وأن الناس في الموقف يعرفون ذلك ويقولونه، ثم إن عدم إحالة النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة إلى أحد بعده كما فعل من قبله من الأنبياء والمرسلين يدل على أنه خاتمهم وليس بعده نبي غيره صلى الله عليه وسلم، وقد صرَّح صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين في أحاديث كثيرة، منها ما رواه ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله زوى لي الأرض» أو قال: «إن ربي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض...» إلى أن قال: «ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»(13).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله...»(14).
ويلاحظ أنه ذكر في حديث أبي هريرة «قريب من ثلاثين»، وفي حديث ثوبان السابق جزم بثلاثين، وقد جمع بينهما ابن حزم فقال: «إن رواية الثلاثين بالجزم على طريق جبر الكسر، ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها، وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابًا فقط لكن يدعو إلى الضلالة كغلاة الرافضة والباطنية وأهل الوحدة والحلولية، وسائر الفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ».
وللحديث صلة - إن شاء الله-.
الهوامش:
1- شرح النووي على مسلم ج5/5.
2- قبيلة باليمن. انظر معجم البلدان جـ5/160.
3- المراد بالريح هنا الجنون ومس الجن، وسموا بذلك، لأنهم لا يبصرهم الناس فهم كالروح والريح. انظر شرح النوو ي على مسلم جـ6/157.
4- أي فهل لك رغبة في رقيتي وتميل إليها.
5- هكذا وردت الكلمة (ناعوس البحر) في صحيح مسلم، ووردت عند غير مسلم (قاموس البحر)، والمراد بها وسط البحر ولجته، وقيل: قعره الأقصى. شرح النووي على مسلم جـ6/157.
6- صحيح مسلم، كتاب الجنة باب 13 جـ2/593.
7- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المجلد الثامن ص5378.
8- تفسير القرآن العظيم لابن كثير المجلد السادس ص423.
9- السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم للخطيب الشربيني جـ3/238.
10- أصول الدين للبغدادي ص158.
11- تفسير ابن كثير المجلد السادس ص425.
12- أخرجه البخاري في كتاب التفسير جـ8/395، ومسلم كتاب الإيمان باب 84 جـ1/184، كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد.
13- الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الفتن، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود جـ3/801، كما أخرجه أحمد في مسنده جـ5/278، وابن ماجه جـ2/1304، والترمذي جـ6/466 مع تحفة الأحوذي، وله أصل في مسلم جـ4/2215.
14- أخرجه البخاري في كتاب الفتن باب 25 جـ13/81.
المرجع
http://www.altawhed.com/Detail.asp?InNewsItemID=244240